سورة الحجرات - تفسير تفسير ابن الجوزي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحجرات)


        


قوله تعالى: {وإِنْ طائفتان....} الآية، في سبب نزولها قولان:
أحدهما: ما روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أنس بن مالك قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أتيتَ عبدَ الله ابن أُبيٍّ، فركب حماراً وانطلق معه المسلمون يمشون، فلمّا أتاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم قال: إِليكَ عنِّي، فوالله لقد آذاني نتن حمارك. فقال رجل من الأنصار: واللهِ لحمارُ رسولِ الله أطيبُ ريحاُ منك، فغضب لعبد الله رجلٌ من قومه، وغضب لكل واحد منهما أصحابُه فكان بينهم ضربٌ بالجريد والأيدي والنِّعال، فبلغَنا أنه أُنزلت فيهم {وإِن طائفتان...} الآية. وقد أخرجا جميعاً من حديث أسامة ابن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يعود سعد بن عبادة، فمرَّ بمجلس فيهم عبدُ الله بن أُبيّ، وعبدُ الله بن رواحة، فخمَّر ابنُ أُبيّ وجهه بردائه، وقال: لا تغبِّروا علينا. فذكر الحديث، وأن المسلمين والمشركين واليهود استَبُّوا. وقد ذكرت الحديث بطوله في المغني والحدائق. وقال مقاتل: وقف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على الأنصار وهو على حمار له، فبال الحمار، فقال عبد الله بن أُبيٍّ: أف، وأمسك على أنفه. فقال عبد الله بن رواحة: واللهِ لَهُوَ أطيبُ ريحاً منك، فكان بين قوم ابن أُبيُّ وابن رواحة ضرب بالنِّعال والأيدي والسَّعَف، ونزلت هذه الآية.
والقول الثاني: أنها نزلت في رجلين من الأنصار كانت بينهما مُماراة في حقِّ بينهما، فقال أحدهما: لآخذنَّ حقي عَنوة، وذلك لكثرة عشيرته، ودعاه الآخر ليحاكمه إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يزل الأمر بينهما حتى تناول بعضهم بعضاً بالأيدي والنعال، قاله قتادة. وقال مجاهد: المراد بالطائفتين: الأوس والخزرج؛ اقتتلوا بالعصي بينهم. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وابن مسعود، وأبو عمران الجوني: {اقتتلا} على فعل اثنين مذكَّرين. وقرأ أبو المتوكل الناجي، وأبو الجون، وابن أبي عبلة {اقتتلتا} بتاء وألف بعد اللام على فعل اثنين مؤنثتين. وقال الحسن وقتادة والسدي {فأصلِحوا بينهما} بالدعاء إِلى حكم كتاب الله عز وجل والرضى بما فيه لهما وعليها {فإن بغت إِحداهما} طلبت ما ليس لها، ولم ترجع إَلى الصلح، {فقاتِلوا التي تبغي حتى تفيءَ} أي: تَرْجِع {إِلى أمر الله} أي: إِلى طاعته في الصلح الذي أمر به.
قوله تعالى: {وأَقسِطوا} أي: اعدلوا في الإِصلاح بينهما.
قوله تعالى: {إِنما المؤمنون إِخوة} قال الزجاج: إِذا كانوا متفقين في دينهم رجَعوا باتفاقهم إِلى أصل النسب، لأنهم لآدم وحواءَ، فإذا اختلفت أديانهم افترقوا في النسب.
قوله تعالى: {فأصِلحوا بين أخويكم} قرأ الأكثرون {بين أخويكم} بياء على التثنية. وقرأ أُبيُّ بن كعب، ومعاوية، وسعيد بن المسيب، وابن جبير، وقتادة، وأبو العالية، وابن يعمر، وابن أبي عبلة، ويعقوب: {بين إِخوتكم} بتاء مع كسر الهمزة على الجمع. وقرأ علي بن أبي طالب، وأبو رزين، وأبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، والشعبي، وابن سيرين: {بين إخوانكم} بالنون وألف قبلها. قال قتادة: ويعني بذلك الأوس والخزرج.


قوله تعالى: {لا يَسْخَر قومٌ من قوم} هذه الآية نزلت على ثلاثة أسباب؛ فأما أولها: إلى قوله تعالى: {خيراً منهم} فنزلت على سبب وفيه قولان:
أحدهما: أن ثابت بن قيس بن شمَّاس جاء يوماً يريد الدُّنُوَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان به صمم، فقال لرجل بين يديه: افسح، فقال له الرجل: قد أصبتَ مجلساً، فجلس مُغْضَباً ثم قال للرجل: من أنت؟ قال أنا فلان. فقال ثابت: أنت ابن فلانة!! فذكر أمّاً له كان يعيَّر بها في الجاهلية، فأغضى الرجل ونَكَسَ رأسَه ونزل قوله تعالى: {لا يَسْخَر قومٌ من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم}، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: أن وفد تميم استهزؤوا بفقراء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لِما رأَوا من رثاثة حالهم، فنزلت هذه الآية، قاله الضحاك ومقاتل.
وأما قوله تعالى {ولا نساءٌ من نساء} فنزلت على سبب، وفيه ثلاثة أقوال.
أحدها: أن نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم عيَّرن أًمَّ سَلَمة بالقِصَر، فنزلت هذه الآية، قاله أنس بن مالك. وزعم مقاتل أن عائشة استهزأت من قِصَر أًمِّ سَلَمة.
والثاني: أن امرأتين من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم سَخِرتا من أم سلمة زوجِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت أم سلمة قد خرجت ذات يوم وقد ربطت أحد طرفي جلبابها على حَقْوها، وأرخت الطرف الآخر خلفها، ولا تعلم، فقالت إِحداهما للأخرى: انظُري ما خَلْفَ أم سلمة كأنه لسان كلب، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثالث: «أن صفيَّة بنت حُيَيّ بن أخطب أتت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إِن النساء يعيِّرنني ويقُلن: يا يهودية بنت يهوديَّين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هلاّ قُلْتِ: إِن أبي هارون، وإِن عمِّي موسى، وإن زوجي محمد» فنزلت هذه الآية، رواه عكرمة عن ابن عباس.
وأما قوله تعالى {ولا تَلْمِزوا أنفُسَكم ولا تَنابزوا بالألقاب} فنزلت على سبب، وفيه ثلاثة أقوال.
أحدها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدِمَ المدينة ولهم ألقاب يُدْعَون بها، فجعل الرجل يدعو الرجل بلقَبه، فقيل له: يا رسول الله: إِنهم يكرهون هذا، فنزل قوله تعالى: {ولا تَنابزوا بالألقاب}، قاله أبو جبيرة بن الضحاك.
والثاني: أن أبا ذر كان بينه وبين رجل منازعة، فقال له الرجل: يا ابن اليهودية، فنزلت: {ولا تَنابزوا بالألقاب}، قاله الحسن.
والثالث: أن كعب بن مالك الأنصاري كان بينه وبين عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي كلام، فقال له: يا أعرابي، فقال له عبد الله: يا يهودي فنزلت فيهما {ولا تَلمزوا أنفُسكم ولا تَنابزوا بالألقاب} قاله مقاتل.
وأمّا التفسير، فقوله تعالى: {لا يَسخر قومٌ من قوم} أي: لا يستهزئ غنيٌّ بفقير، ولا مستور عليه ذنْبُه بمن لم يُستَر عليه، ولا ذو حَسَب بلئيم الحَسَب، وأشباه ذلك ممّا يتنقَّصه به، عسى أن يكون عند الله خيراً منه. وقد بيَّنّا في [البقرة: 54] أن القوم اسم الرجال دون النساء، ولذلك قال: {ولا نساءٌ من نساء} و{تَلْمِزوا} بمعنى تَعيبوا، وقد سبق بيانه [التوبة: 58]. والمراد بالأنفُس هاهنا: الإِخوان. والمعنى: لا تَعيبوا إِخوانكم من المسلمين لأنهم كأنفسكم، والتنابز: التفاعل من النَّبْز، وهو مصدر، والنَّبَز الاسم. {والألقاب} جمع لقب، وهو اسم يُدعى به الإنسان سوى الاسم الذي سمِّي به. قال ابن قتيبة: {ولا تَنابزوا بالألقابَ} أي: لا تتداعَوْا بها. والألقاب والأنْباز واحد، ومنه الحديث: «نَبْزُهم الرافضة» أي: لقبُهم. وللمفسرين في المراد بهذه الألقاب أربعة أقوال.
أحدها: تعيير التائب بسيِّئات قد كان عملها، رواه عطية العوفي عن ابن عباس.
والثاني: أنه تسميته بعد إسلامه بدينه قبل الإِسلام كقوله لليهودي إِذا أسلم: يا يهودي، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً. وبه قال الحسن، وسعيد ابن جبير، وعطاء الخراساني، والقرظي.
والثالث: أنه قول الرجل للرجل: يا كافر، يا منافق، قاله عكرمة.
والرابع: أنه تسميته بالأعمال السيئة، كقوله: يا زاني؛ يا سارق، يا فاسق، قاله ابن زيد. قال: أهل العلم: والمراد بهذه الألقاب: ما يكرهه المنادَى به، أو يُعَدُّ ذمَاً له. فأمّا الألقاب التي تكسب حمداً وتكون صدقاً، فلا تُكره، كما قيل لأبي بكر: عتيق، ولعمر: فاروق، ولعثمان: ذو النورين، ولعليّ: أبو تراب، ولخالد سيف الله، ونحو ذلك. وقوله: {بئسَ الاسمُ الفُسوق} أي: تسميتُه فاسقاً أو كافراً وقد آمن، {ومن لم يَتُب} من التَّنابُز {فأولئك هم الظالمون} وفيه قولان:
أحدهما: الضارُّون لأنْفُسهم بمعصيتهم، قاله ابن عباس.
والثاني: هم أظلم من الذين قالوا لهم ذلك، قاله ابن زيد.


قوله تعالى: {اجتنبوا كثيراً من الظَّنِّ} قال ابن عباس: نهى اللهُ تعالى المؤمنَ أن يظُنَّ بالمؤمن شرّاً. وقال سعيد بن جبير: هو الرجل يسمع من أخيه كلاماً لا يريد به سوءاً أو يدخُل مَدخلاً لا يريد به سوءاً، فيراه أخوه المسلم فيظُن به سوءاً. وقال الزجاج: هو أن يظُن بأهل الخير سوءاً، فأمّا أهل السوء والفسق، فلنا أن نظُنَّ بهم مِثْل الذي ظهر منهم. قال القاضي أبو يعلى: هذه الآية تدل على أنه لم يُنْه عن جميع الظَّنّ؛ والظَّنُّ على أربعة أضرب. محظور، ومأمور به، ومباح ومندوب إِليه، فأمّا المحظور، فهو سوء الظن بالله تعالى، والواجب: حُسْنُ الظن بالله، وكذلك سوء الظن بالمسلمين الذين ظاهرُهم العدالةُ محظور، وأما الظن المأمور به، فهو ما لم ينصب عليه دليل يوصل إِلى العِلْم به، وقد تُعُبِّدنا بتنفيذ الحُكم فيه، والاقتصار على غالب الظن، وإجراء الحُكم عليه واجب، وذلك نحو ما تُعُبِّدنا به من قبول شهادة العُدول، وتحرِّي القِبلة، وتقويم المستهلَكات، وأروش الجنايات التي لم يَرِدْ بمقاديرها توقيف، فهذا وما كان من نظائره قد تُعُبِّدنا فيه بأحكام غالب الظنُّون. فأمّا الظن المباح: فكالشّاكِّ في الصلاة إِذا كان إماماً، أمره النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالتحرِّي والعملِ على ما يَغْلِب في ظنِّه، وإن فعله كان مباحاً، وإِن عَدَلَ عنه إِلى البناء على اليقين كان جائزاً. وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذا ظَنَنْتُم فلا تحقّقوا» وهذا من الظن الذي يَعْرِض في قلب الإِنسان في أخيه فيما يوجب الرِّيبة فلا ينبغي له أن يحقِّقه. وأما الظن المندوب إِليه: فهو إِحسان الظن بالأخ المسلم يُنْدَب إِليه ويُثاب عليه. فأمّا ما روي في الحديث: «احترِسوا من الناس بسوء الظن» فالمراد: الإحتراس بحفظ المال، مثل أن يقول: إن تركت بابي مفتوحاً خشيت السُّرّاق.
قوله تعالى: {إِنَّ بعض الظَّنِّ إِثم} قال المفسرون: هو ما تكلم به مما ظنَّه من السُّوءِ بأخيه المسلم، فإن لم يتكلَّم به فلا بأس، وذهب بعضهم إِلى أنه يأثم بنفس ذلك الظن وإِن لم يَنْطِق به.
قوله تعالى: {ولا تَجَسَّسوا} وقرأ أبو رزين، والحسن، والضحاك، وابن سيرين، وأبو رجاء، وابن يعمر: بالحاء. قال أبو عبيدة: التجسس والتحسس واحد، وهو التَّبحُّث ومنه الجاسوس. وروي عن يحيى بن أبي كثير أنه قال: التجسس، بالجيم: البحث عن عورات الناس، وبالحاء: الاستماع لحديث القوم. قال المفسرون: التجسس: البحث عن عيب المسلمين وعوراتهم؛ فالمعنى: لا يبحث أحدكم عن عيب أخيه ليطَّلع عليه إِذ ستره الله. وقيل لابن مسعود: هذا الوليد بن عقبة تقطر لحيته خمراً، فقال: إِنا نُهينا عن التجسس، فإن يَظهرْ لنا شيء نأخذْه به.
قوله تعالى: {ولا يَغْتَبْ بعضُكم بعضاً} أي: لا يتناول بعضُكم بعضاً بظهَر الغَيْب بما يَسوؤُه. وقد روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل ما الغيبة؟ قال: «ذِكْرُكَ أخاك بما يََكره»، قال: أرأيتََ إن كان في أخي ما أقول قال: «إِن كان في أخيك ما تقول فقد اغتبته، وإِن لم يكن فيه فقد بهتَّه». ثم ضَرَبَ اللهُ للغِيبة مثلاً فقال: {أيُحِبُّ أحدُكم أن يأكل لحم أخيه مَيْتاً} وقرأ نافع {ميّتاً} بالتشديد. قال الزجاج: وبيانه أن ذِكرك بسوءٍ مَنْ لم يَحْضُر، بمنزلة أكل لحمه وهو ميت لا يُحِسُّ بذلك. قال القاضي أبو يعلى: وهذا تأكيد لتحريم الغيبة، لأن أكل لحم المسلم محظور، ولأن النُّفوس تَعافُه من طريق الطَّبع، فينبغي أن تكون الغِيبة بمنزلته في الكراهة.
قوله تعالى: {فكرِهتموه} وقرأ الضحاك، وعاصم الجحدري {فكُرّهتموه} برفع الكاف وتشديد الراء. قال الفراء: أي: وقد كرهتموه فلا تفعلوه، ومن قرأ {فكُرّهتموه} أي: فقد بُغِّض إِليكم، والمعنى واحد. قال الزجاج: والمعنى: كما تكرهون أكل لحمه ميتاً، فكذلك تجنَّبوا ذِكْره بالسُّوء غائباً.
قوله تعالى: {واتَّقوا الله} أي: في الغِيبة {إِن الله توّابٌ} على من تاب {رحيمٌ} به.

1 | 2 | 3